قارب الخلاص

قارب الخلاص
في جوربي العتيق ذو الرائحة الكريهة وضعت كل المستمسكات الشخصية و بعض ما تبقى من أوراق العملة النقدية في لفافة من كيس النايلون كي لا تصل اليها مياه البحر و تتلفها كانت ليلة حالكة الظلام تلك التي أبلغنا بها المهرب أن قارب التهريب سيكون قريب من الشاطئ و علينا أن نكون حذرين لأن خفر السواحل ربما سيكونون في الجوار هذه الليلة كنا مجموعة من الأشخاص من جنسيات مختلفة ألا أننا كنا نشترك في حلم واحد هو الخلاص .
لم نكن نعرف أسماء المهربين فكلها مستعارة و غير حقيقية كنا كالقطيع الذي يساق لجهة مجهولة لحظات و وصلنا الى القارب كان قارب للصيد قديم و شكله يوحي بانه صدأ و بال لكن الطاقم أكد لنا انه الافضل في عبور البحر الابيض المتوسط . دخلنا في حوض يقع في وسط القارب كان يستخدم في حفظ الاسماك التي يصطادوها من البحر كان الرائحة لا تطاق و تزكم الأنوف كانت هناك مجاميع أخرى قد اتخذت أماكنها في تلك الحجرة البائسة .تراصفنا ليتسع المكان للجميع التصقت الاجساد بالاجساد كان يبدو منظرنا من الاعلى كعلب سمك السردين بل نحن كذلك علب سردين معده للتصدير
أكتمل عددنا و تهيأ الجميع لرحلة الخلاص ما أن بدأ القارب بشق طريقه بين الامواج حتى بدأ معظم من في المكان بالقيء فمعظم من في القارب من النساء و الاطفال لم يعتادوا الركوب في البحر. كان هناك ثقب واحد لدخول الهواء يقع في الاعلى من الحجرة أما الابواب فكانت محكمة الاغلاق من الخارج حتى لا يرانا خفر السواحل في حال صادفنا في الطريق احسسنا بضيق المكان و كان بين الحين و الاخر يفتح علينا أحد افراد الطاقم الباب لنستنشق الهواء و في بعض الاحيان يلقي ببعض قناني الماء العذب .كان من المفروض أن الرحلة لا تستغرق سوى يومين عبر مياه البحر المتوسط في حال سير الامور كما هي عليه
بدا الامر ممتعا في البدء و الجميع متفائل أننا سنصل الى أعتاب القارة العجوز و سيكون في انتظارنا هناك كل المنظمات التي تعنى بحقوق الانسان لكنه أصبح الامر مملاً فيما بعد و كانت مشكلة التخلص من الفضلات ( الخراء) و القاذورات تحدي للبعض فقد كان هناك مرحاض واحد معد لأفراد الطاقم و كان هناك طابور يجب علينا انتظاره كان بعض الرجال يوجه قضيبه نحو البحر و يلقي بالغائط في كيس عرض البحر
في الليل هكذا كنا أما في النهار فكان الطاقم حذر من خروج الافراد على سطح المركب لربما هناك دوريات في الجو يمكنها أن تتعرف بأن هذا ليس قارب صيد معتاد و هذا ما حصل بالفعل فقد ساد الصمت داخل الحجرة و سكت الجميع عن التحدث عن سيرته الذاتية لحظة دوي صوت لطائرة الهليكوبتر في السماء أحد أفراد الطاقم أمرنا بعدم الحركة أو اصدار اي صوت
صه لا تحدثوا جلبه
حتى أنا توقفت عن أكل اخر قطع البسكويت المتبقية لدي كي لا يكشف أمرنا من خلال مضغي للبسكويت . بدا صوت الطائرة بالاقتراب أكثر و أكثر ثم عاد يختفي من جديد و كانت دقات القلب تتسارع كلما أقترب الصوت كنا لا نرى شيء سوى من خلال ذلك الثقب كان هناك عند الثقب من ينقل الحدث و يجعل الأمر يبدوا مثيراً من خلال العبارات الرنانة التي كانت يستخدمها في وصف قدوم الطائرة
الشمس ساطعة و كنا عرض البحر صيداً سهلاً على ما يبدوا لخفر السواحل ابتعدت الطائرة و بدا الجميع بالتنفس من الجديد و البعض يقرأ تعاويذ و الآيات و الاخر يصلي للسيدة العذراء .الجميع أصبح يطلب رحمة السماء عاد الجميع للتحدث بعدما أخبرنا المهرب أن كل شيء على ما يرام و سنصل يوم غداً لليابسة و أستبشر الجميع لكل واحد منا قصة تختلف عن الاخرى هناك من باع كل اشياءه لتسديد كلفة الرحلة و الاخر أقترض من كل معارفه و العديد منهم لم يدفع كل ما عليه لحين وصوله لليابسة و كل له اسبابه للهجرة كلها تشترك بانها خلاص .بداية جديدة ربما حلم للبعض الاخر
بدا وقع أقدام أفراد الطاقم على سطح المركب بالتسارع الكل بدا يركض في أتجاه ما كنا لا نعلم ما الذي يحدث في الاعلى ثم أختفى الصوت لا وقع للأقدام على السطح بعد الان لا شيء
أنهم يهربون .أنهم يهربون ! صاح الذي كان يراقب من الثقب الصغير .
.من الذي يهرب؟ الجميع يتسأل
عليهم اللعنة .أفراد الطاقم يرمون بقوارب مطاطية و يهربون بدا الجميع بالصراخ و التوسل لعل أفراد الطاقم يرجعون للقارب
كانوا قد اوصدوا الباب من الخارج لا أحد يمكنه الخروج ..الجميع يصرخ و يلعن الحياة النساء و الاطفال يبكون و نحن يحدق أحدنا في وجه الاخر أيعقل أننا تركنا في عرض البحر بلا قبطان أو طاقم .كيف يسير المركب و الى اين المسار بدأنا نحاول أن نسيطر على الموقف و نطمئن النساء بأن خفر السواحل سيتمكنون من أيجادنا من خلال أقمارهم الصناعية و أجهزة الاستشعار الحديثة و الاشعة فوق الحمراء و تحت البنفسجية و أن هناك أمل في أن الوضع لا يتفاقم كان المركب يترنح في عرض البحر و الامل الوحيد كان من خلال ذلك الثقب الصغير . عين واحدة تطالع من ذلك الثقب الصغير نحو ألافق و خلف تلك العين نقبع نحن ننتظر في أي لحظة ان ينتشلنا قارب للنجاة أو دورية أو طائرة مروحية لا أحد يعلم بوجودنا في وسط البحر سوى هؤلاء المهربين الذين تركونا نواجه مصيرنا المجهول
لا ربان هناك لا احد خلف دفة القيادة لا بوصلة لا مرساة
بدأ اليأس يتسلل لكل من في الحجرة لا شيء هناك سوى الامواج بدأنا نتناوب الواحد تلو الاخر للرؤية من ذلك الثقب الصغير الاوكسجين بدأ بالتضائل و الانفاس تختنق و كذلك الروائح كانت مزيج من القيء و الغائط و رائحة الاجساد و جوربي العتيق و رائحة السمك الممزوجة بجدران الحجرة
تقاسمنا الدور حول ذلك الثقب الصغير أصبح كل عالمنا لا رغبة لنا بالقارة العجوز لا رغبة لنا في كل المنظمات كل ما نريده أن نرى السماء و تلمس أقدامنا اليابسة من جديد أي يابسة كانت لم يعد الامر مهم بعد الان الامواج تتناقل القارب من مكان الى أخر و حل الظلام لا شيء سوى صوت الموج يلطم المركب البحر يتحول لكائن مخيف في الظلام لم يكن هناك ضوء يكفي في داخل الهجرة حتى تلك الاضواء في الهواتف النقالة تلاشت
أستسلم الجميع . كل من في الحجرة أتجه للسماء
لما لا تغرق المركب لتخلصنا من هذا الموت البطيء أنت الذي في السماء .
أرهقني التعب و استسلمت عيناي للنوم بدا القارب يهدهدني كسرير طفل في المهد
توالت الصور في مخيلتي طفولتي و الزقاق و كل الاوجه التي صادفتها في حياتي بدأت تتكوم و ملامحها تلبست أوجه الاسماك الاسماك التي سأكون في بضع دقائق بين فكيها أسوء وجبة تناولتها أو ربما قد تكون قد أعتادت لحوم المهاجرين العابرين فنحن لن نكون أول من تذوقته تلك الاسماك و لا نحن الاخيرين بالطبع حاولت أن أتمالك نفسي عن البكاء و بدأت أبحث عن أي قصاصة للورق كي أكتب فيها أخر اللحظات أخر تصريح بالحياة يجب أن يكون من أجمل و أصدق ما كتبت يجب أن يكون ذا مغزى لم أجد اي عبارة غير أنني أسف .أسف لكل اشيائي التي تركتها معلقة .أسف ايها الوطن . اسف يا أمي يا أبي يا أخوتي.
و شكراً لك ايها البحر الازرق المالح أستقبالك الحافل لنا رغم أننا لا نحمل فيزا و لا جوازات للسفر شكراً لكل القواقع في القاع و للطحالب التي ستعلق بين الاسنان و في فتحات الانف و العيون سنكون أجمل و جثثنا تطوف على سطح مياه البحر و ربما ستصل تباعا نحو الشاطئ حيث السياح المصطافين ربما يحاولون أعادتنا نحو مياه البحر كما يفعلون لحظة جنوح الحيتان بينما أنا في هذياني أهتز المركب نتيجة اصطدامه بشيء ما
الجميع يغط في النوم العميق أو هكذا تصورت أنهم نائمون سمعنا أصوات وقع أقدام على سطح المركب و حديث بلغة لم أعرف هويتها تحركنا نحو الباب المقفل كنا مجموعة من الشباب و بجنون بدأنا بأيادينا العارية نضرب بقوى الباب و نصرخ بكل اللغات ( أنقذونا .ساعدونا .نحن هنا )
أحسسنا أنهم يحاولون فتح الباب نحن نصرخ في الداخل و بعد عدة ضربات للقفل أنكسر و فتحت باب الحجرة و دخل الضياء بقوة لم تسطع أعيننا الابصار للوهلة الاولى عن ماهية هؤلاء الاشخاص بدت أجسادهم تخرج من الضياء الواحد تلو الاخر كما لو أنهم مخلوقات فضائية تحدثوا بلغة لم نفهم اي شيء منها حاولوا استخدام لغات متعددة . أدركت عندما سمعتهم يتحدثون الانكليزية أنهم يسألون من أين نحن ؟
أجبت من دون تفكير و كان أول أجابة خطرت على ذهني . نحن من الارض !
أحسست بذهولهم من الاجابة و لم يسألوا عن اي شيء بعد ذلك
الايادي تسحبنا نحو الخارج كأنما نخرج من رحم شيء ما ولادة جديدة بعد مخاض اليم لا قدرة لنا على فتح اعيننا لأنها تعودت على الظلام تم سحب القارب نحو الشاطئ كان يبدو كمتهم يجر لحبل المشنقة
عندما لامست قدمي اليابسة أجهشت بالبكاء و نزلت أشم و أقبل رمال الشاطئ لم أعي ماذا أفعل جلست أتأمل المركب و هم يخرجون جثث الاطفال و النساء و بعض كبار السن و يضعونها في أكياس زرقاء الواحد تلو الاخر متجاورين كان لكل جثة مساحة كافية لكي تمدد جسدها لم تعد الاجساد مجبرة على التكور و التقعر بعد الان شعرت برغبة بالانتقام من شيء ما
لم أجد أمامي سوى ذلك القارب البائس نهضت مسرعاً نحوه أصرخ بأعلى صوتي و أقذف حصى الشاطئ صوب بدن القارب المهترئ كل الحصى الذي كنت أقذفه ينتهي في ذلك الثقب الصغير الذي كنا ننظر من خلاله كان يبتلع الحصى الواحدة تلو الاخرة أنتبه من كان معي في القارب حتى قام الجميع بالصراخ يفعلون ما أفعل و يقذفون القارب بالحصى و لازال القارب يبتلع الحصى من خلال ذلك الثقب الصغير كان يبدوا كالثقب الاسود الذي يلتهم المجرات أمتلئ بدن القارب بالحصى حتى غار تحت الماء سمعنا صراخ من بدن القارب و هو ينزل لقاع البحر
نظر أحدنا للأخر كنا كأجساد مجوفة و ذواتنا لازالت هناك في ذلك القارب حيث الحجرة المظلمة.
بدا القارب كجسد المسيح ركضنا نحوه نحاول أن نكفر عن خطايانا
كان ذلك الثقب كل ما نملك و كل ما عدا ذلك محظ هراء
مهند دروبي